في عالم الألعاب الذي يتسارع فيه الإيقاع، يأتي كونراد توماشكوڤيتش، المخرج السابق لـ"الويتشير 3"، بمشروع يحمل في طياته ذكريات الماضي وطموحات المستقبل. "دماء المشي في الفجر" ليست مجرد لعبة، بل هي رحلة شخصية لمطور يعرف جيداً كيف يجمع بين الجمال الخام والعمق العاطفي. يتحدث توماشكوڤيتش بتلك الهدوء المميز له، وكأنه يروي قصة حول نار معسكر، عن كيف بدأت الفكرة تتشكل في ذهنه بعد سنوات من الغوص في عوالم "الويتشير".
جذور الإلهام والاختيار الشجاع
يبدأ توماشكوڤيتش بتذكيرنا بأن الإلهام لا يأتي دائماً من الكتب أو الأفلام، بل من تلك اللحظات الهادئة التي تُجبرك على التفكير في الهوية. "كنت أفكر في التراث الشخصي، في تلك القصص الأوروبية الشرقية التي تتحدث عن الدماء والأرواح المضطربة"، يقول، ويضيف بابتسامة خفيفة أن الفرق هنا يكمن في الشعور. اللعبة، التي تُطوّرها استوديو Fool's Theory، تُركز على بطل يُدعى إيثان، شاب يواجه ماضيه المليء بالأسرار العائلية في عالم يمزج بين الواقعية القاسية والخيال الغامض. أعجبتني هذه النقطة، لأنها تذكّرني بكيف أن "الويتشير" نجحت بفضل بطولاتها المعقدة، لكن هنا يبدو الأمر أكثر خصوصية، كأنك تتحدث مع صديق عن جروحه الخاصة.
التصميم يأخذ منحى مختلفاً قليلاً، حيث يُركّز على الاستكشاف غير الخطي، مع لمسات من الرعب النفسي التي تجعلك تتوقف وتفكر قبل كل خطوة. تخيّل أن تتجول في غابات كثيفة، حيث كل شجرة تخفي سراً، وكل لقاء يُغيّر مسار قصتك. هذا النوع من الحرية، يشرح المطور، جاء من تجاربه السابقة، لكنه مُصمّم ليكون أكثر دفءً، أقل برودة من القتال الدائم الذي اعتدنا عليه.
التحديات في بناء عالم حيّ
بالطبع، لم يكن الأمر سهلاً. يعترف توماشكوڤيتش بأن بناء عالم يشعر بالحيوية يتطلب توازناً دقيقاً بين التفاصيل والفراغات التي يملأها اللاعب. "نحن لا نريد أن نُملأ الشاشة بكل شيء، بل نترك مساحة للخيال"، يقول، ويضحك قليلاً عندما يتذكّر الليالي الطويلة في الاستوديو حيث كان الفريق يناقش كل حوار بتفصيل. هناك شيء مريح في هذا الاعتراف، يجعلك تشعر أن اللعبة ليست مجرد منتج، بل عمل جماعي يحمل بصمات أشخاص حقيقيين.
من الناحية الفنية، اعتمدوا على محرك Unity ليمنحوا العالم تلك اللمسة الواقعية، مع إضافات تسمح بتفاعلات ديناميكية تجعل الدماء – حرفياً ومجازياً – جزءاً من السرد. تخيّل أن قراراتك تؤثر على لون السماء أو صوت الرياح، هذا النوع من الغمر الذي يجعلك تنسى أنك أمام شاشة. ومع ذلك، يلمّح إلى صعوبات التمويل المستقل، حيث يجب أن تكون كل خطوة محسوبة، لكن هذا الضغط، يقول، هو ما يجعل الإبداع أكثر نقاءً.
المستقبل والوعود غير المُعلنة
عندما يتحدّث عن المستقبل، يتغيّر صوته قليلاً، يصبح أكثر حماساً ممزوجاً بحذر. اللعبة لا تزال في مراحلها الأولى، لكن الوعود واضحة: قصة تُروى ببطء، مع شخصيات تُشعرك بالارتباط الحقيقي. "ربما تبدو مشابهة لما سبق، لكن الشعور مختلف تماماً"، يؤكّد، وأنا أتفق معه؛ في زمن الألعاب السريعة، نحتاج إلى شيء يدعونا للإبطاء والتأمّل.
يُنهي الحديث بلمسة شخصية، يتحدّث عن كيف أن "دماء المشي في الفجر" هي دعوة للاعبين لاستكشاف الجانب المظلم من أنفسهم، ليس بالخوف، بل بالفضول. هذا النوع من الرؤى يجعلك تتساءل، هل سنرى المزيد من هؤلاء المبدعين يغادرون الكبار ليبنوا عوالمهم الخاصة؟ الوقت وحده سيُجيب، لكن الإشارات الأولى تبدو مشجّعة.